صّمت آذاننا لسنة و نيف من تنظيرات جباهذة السياسة حول هذه الثورة المعجزة؛ ثورة قادها شباب غير مسيس؛ لا يحمل أية ايدولوجيا؛ و ظلت هذه الفكرة تروّج على أنها من محاسن الثورة؛ و بدعة’ تونسية ثم عربية؛ بدعة صنعت الربيع العربي؛ حالة فريدة في تاريخ الانسانية؛ ثورة بدون قيادات و بدون ايدولوجيا.
لا شك لدي أنه لم تكن هناك قيادات و لا ايدولوجيا لأن هذه الشعوب ظلت عاجزة عن انتاج فكر يصنع ايدولوجيا معارضة للدكتاتورية وبالتالي لم تكن هناك قيادات معارضة ذات عمق في المجتمع التونسي او العربي بصفة عامة؛ لم يكن عدم بروز تيارات فكرية او سياسية تقود الثورة أمرا اختياريا؛ من شعب أراد أن لا تفرقه الشعارات الحزبية؛ بل كان امرا واقعا فرضه تصحر المشهد الفكري و السياسي التونسي الذي فشل في انتاج مجتمع يؤمن فعلا بالديمقراطية و يتوق للحرية.
يتبادر للذهن هنا طبعا السؤال لماذا انتفضت الشعوب اذا؟
عندما يشتدد طغيان الدكتاتورية و يصل الى حد اعتقادها أنه يمكن لها أن تستبيح كل شيء؛ ولن تكون هناك اية ردة فعل من شعب مغلوب على أمره؛ عندما تطمان الى بقائها الى ابد الآبدين يشتدد غرورها و غباؤها؛ و يكفي أن تتذكر اية نشرة من نشرات الثامنة و ما تتحتويه من كذب قبيح لا يصدقه حتى المجانين؛ حتى تعلم مدى ثقة الدولة في أن شعبها يمكن أن يبتلع كل شيء و أن لا شيء يهددها.
شعب قامت الحكومة بتجهيله تجهيلا ممنهجا؛ شعب ظل عاجزا عن انتاج اي فكر او ايدولوجيا يمكن أن تقاوم الدكتاتورية. هذا الشعب مثله كمثل القط الذي اذا اشتد به الخطر؛ فانه للحظات يتحول الى نمر شرس يهاجم سيّده؛ لكنه سرعان مايرجع قطا أليفا مستكينا.
و هذا ما حدث مع الشعوب العربية؛ اشتدت بها الأزمة فانتفضت انتفاضة القط؛ و لأنه ليس هناك أجبن من الدكتارويات؛ فانها انهارت بسرعة.
ولكن هذا الشباب لا يحمل أية ايدولوجيا أو فكر بديل؛ مجرد شعارات عامة؛ من نوع حرية؛ مساوات؛ هوية عربية؛ هوية اسلامية و مطالب اجتماعية سرعان ماذهبت أدراج الرياح؛ رغم أن المطلبية كانت هي الوازع الأول "للثوار"( لذا كان من المفهوم أن الاتحاد العام للشغل كان تقريبا الجهاز الوحيد الذي حاول تأطير الثورة نسبيا؛ لكن دوره اقتصر تقريبا على المستوى الاعلامي و الدعم المعنوي)
و في ظل غياب ايدولوجيا او فكر بديل وجدت الشعوب العربية نفسها بين امرين اثنين لا ثالث لهما؛
--الاسلاميون يدعهم شعور ديني قوي لدى الشعوب الشرقية بصفة عامة و العربية بصفة خاصة؛ اضافة الى الدعم الاعلامي و المادي الكبيرين الذي لقيه الاسلاميون؛ فكان من السهل عليهم أن يملؤا هذا الفراغ.
--الحزب الحاكم السابق في ثوب جديد؛ هذا الحزب حكم البلاد لأكثر من نصف قرن و لديه قواعد اجتماعية كبيرة تدعمه؛ كما لديه خبرة كبيرة في التنظيم الحزبي و النشاط السياسي بصفة عامة.
فهذان التياران لا ثالث لهما في المجتمع التونسي و العربي بصفة عامة؛ بقية الفرق مازالت في المرحلة الجنينية و يلزمها الكثير من الوقت حتى يصبح لها عمق اجتماعي و دور سياسي. لذا كان من الطبيعي أن يتنافس الاسلاميون و النظام السابق في مصر؛ و أن يفوز أحدهم على الآخر بفارق ضعيف؛ و كان النصر للاسلاميين مفهوما نظرا أن الكثيرين صوّتوا للاسلاميين عقابا للحزب الحاكم السابق.
في تونس ستشهد الانتخابات القادمة نفس الاستقطابات؛ الاسلاميون من جهة؛ و السبسي و التجمعيون في نسختهم الجديدة من جهة أخرى؛ هذا على أن كلى الطرفين قد يدخل في تحالفات مع بعض الأحزاب الصغيرة الأخرى؛ التي سيكون لزاما عليها أن تختار أحد الشقين؛ والا فانها ستكون خارج اللعبة تماما؛ على أن التصويت العقابي في تونس سينقسم بدوره بين الشقين؛ فهناك من سيصوت للاسلاميين عقابا للتجمعيين و آخرون سيصوتون للسيبسي عقابا لحكومة النهضة على فشلها في الوفاء بوعودها الانتخابية.
و بين هذا و ذاك سيظل المواطن التونسي و العربي ضحية عدم قيامه بثورة فكرية تؤسس لمرحلة ما بعد الكتاتورية.